يُعد الاندماج النووي القوة الكونية التي تُنير النجوم، وفي مقدمتها شمسنا، وهو العملية التي طالما حلم العلماء بإتقانها لإنتاج طاقة وفيرة ونظيفة على كوكب الأرض. هذه العملية، التي تعتمد على دمج نوى الذرات الخفيفة، تعد بإنهاء الاعتماد على الوقود الأحفوري وتوفير حل مستدام للتحديات البيئية والطاقية المعاصرة. إن فهم آليات عمل هذه التقنية الثورية، والتحديات الهندسية الهائلة التي تواجه تطوير مفاعلات الاندماج النووي، يفتح الباب أمام مستقبل تتسم فيه الطاقة بالوفرة والأمان.
- ✅ الاندماج النووي هو عكس الانشطار، حيث يندمج الديوتيريوم والتريتيوم لتكوين الهيليوم، مطلقاً طاقة هائلة.
- ✅ يتطلب التفاعل درجات حرارة تفوق 150 مليون درجة مئوية لتحويل الوقود إلى حالة البلازما.
- ✅ التحدي الأكبر هو احتواء البلازما فائقة السخونة باستخدام حقول مغناطيسية قوية، كما في تصميمات التوكاماك.
- ✅ مشاريع عالمية كبرى مثل "إيتر" (ITER) تسعى لإثبات الجدولية العلمية والتقنية لهذا النوع من الطاقة.
الاندماج النووي هو العملية الأساسية التي تحدث في قلب الشمس، وهي المسؤولة عن توليد تلك الطاقة الهائلة التي تمد مجموعتنا الشمسية بالحياة والدفء. تتم هذه العملية عبر اندماج نوى ذرات نظائر الهيدروجين معاً لتشكيل نواة ذرة الهيليوم الأثقل. ويُطلق نتيجة هذا الاندماج قدرٌ عظيم من الطاقة ومجموعة من الجسيمات كالنيوترونات؛ ويعود سبب هذا الانطلاق الهائل للطاقة إلى أن كتلة النواة الجديدة الناتجة تكون أقل بقليل من مجموع كتل النوى التي اندمجت، وهذا النقص في الكتلة يتحول مباشرة إلى طاقة حرارية وإشعاعية هائلة وفقاً لمعادلة أينشتاين الشهيرة لتكافؤ الكتلة والطاقة (E=mc2).
منذ عقود، يسعى الباحثون والمهندسون لإعادة إنتاج طاقة الاندماج الهائلة هذه لاستخدامها في توليد الكهرباء على الأرض بشكل تجاري ونظيف. تُعرف التكنولوجيا المستخدمة لهذا الغرض باسم **مفاعلات الاندماج النووي**. وتختلف هذه المفاعلات جذرياً عن المفاعلات الانشطارية التقليدية الحالية التي تعتمد على شطر نوى الذرات الثقيلة (كاليورانيوم) وتنتج نفايات مشعة طويلة الأمد؛ فمفاعلات الاندماج تعمل على دمج نوى الذرات الخفيفة بدلاً من شطرها، مما يجعلها أكثر أماناً وأنظف بيئياً، حيث لا تنتج غازات دفيئة وتعتمد على وقود متوفر بكثرة في مياه البحار والقشرة الأرضية.
الشروط القاسية لنجاح تفاعل الاندماج
في عملية الاندماج النووي، يُجبر العلماء نظائر الهيدروجين، وتحديداً **الديوتيريوم** و**التريتيوم**، على الالتحام معاً. ولإتمام هذا التفاعل بنجاح، يتطلب الأمر توفير شروط بالغة القسوة تحاكي وتفوق الظروف الموجودة في قلب الشمس؛ حيث يجب تسخين الوقود إلى درجات حرارة تتجاوز 150 مليون درجة مئوية ليتحول إلى حالة **البلازما**، وهي الحالة الرابعة للمادة التي تنفصل فيها الإلكترونات عن النوى. كما يحتاج الأمر إلى ضغط هائل وكثافة عالية لتقريب النوى من بعضها البعض والتغلب على قوى التنافر الكهربائية بينها، مع ضرورة الحفاظ على هذه الحالة لفترة زمنية كافية لحدوث الاندماج.
أما مفاعلات الاندماج النووي، فهي الآلات الهندسية المعقدة التي صُممت لاحتواء هذه العملية ودمج النوى وحصر تلك البلازما الحارقة. تحتاج هذه المفاعلات إلى أنظمة حصر مغناطيسية فائقة القوة؛ لأنه من المستحيل أن تحتمل أي مادة صلبة ملامسة هذه البلازما دون أن تنصهر فوراً.
ولتحقيق ذلك، يعتمد العلماء بشكل رئيسي على تصميم **التوكاماك** (Tokamak)، وهو جهاز ذو غرفة مفرغة على شكل حلقة (يشبه الدونات) يستخدم مجالات مغناطيسية هائلة القوة لإحاطة البلازما وتعليقها في الفراغ دون أن تلامس الجدران. ويعمل المجتمع العلمي حالياً بتكاتف دولي غير مسبوق على بناء وتطوير هذه المفاعلات للوصول إلى مرحلة الإنتاج الفعلي للطاقة النظيفة.
هناك العديد من النماذج التي ما زالت في الطور التجريبي، ومن أشهرها مفاعل "**إيتر**" (ITER) في جنوب فرنسا، وهو مشروع عالمي عملاق تشارك فيه 35 دولة (بما فيها الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي)، ويهدف لإثبات جدوى الاندماج علمياً وتقنياً. يمكنكم الاطلاع على تفاصيل هذا المشروع العملاق عبر زيارة موقعه الرسمي موقع مشروع إيتر.
كذلك يوجد المفاعل الصيني "**إيست**" (EAST) الذي حقق أرقاماً قياسية في الحفاظ على البلازما لفترات طويلة ويُلقب بـ "الشمس الصناعية الصينية"، بالإضافة إلى مشروع "**ويست**" (WEST) الفرنسي (وهو تطوير لمفاعل تور سوبرا) الذي يركز على اختبار مكونات التنجستن لتحمل الحرارة العالية ودعم مشروع إيتر. وتعتمد كل المشاريع المذكورة تقنية "التوكاماك" التي تعتبر الأكثر نضجاً تقنياً حتى الآن في مجال الاندماج النووي.
وبجانب الحصر المغناطيسي في التوكاماك، توجد تصميمات أخرى تحاول الوصول لنفس الهدف بطرق مختلفة، مثل تلك التي تعتمد على "**الحصر بالقصور الذاتي**" باستخدام الليزر العملاق. وأشهر مثال عليها هو "منشأة الإشعال الوطنية" (NIF) في الولايات المتحدة، حيث يتم تسليط مئات من أشعة الليزر عالية الطاقة في وقت واحد على كبسولة صغيرة جداً من الوقود لضغطها وتسخينها في جزء من المليار من الثانية.
ورغم أن كلا التصميمين (المغناطيسي والليزري) قد تم اختبارهما وحققا نجاحات متفاوتة، إلا أن الأول (التوكاماك) يبقى هو الأكثر نضجاً والمرشح الأكبر للنجاح في التطبيقات العملية لتوليد الكهرباء.
ما هو الفرق الجوهري بين الاندماج والانشطار؟
الفرق الجوهري يكمن في العملية نفسها؛ فالانشطار (المستخدم حالياً) يقوم بتكسير الذرات الثقيلة (مثل اليورانيوم) لإطلاق الطاقة، وينتج نفايات مشعة طويلة الأمد. أما الاندماج، فيقوم بدمج الذرات الخفيفة (مثل الديوتيريوم والتريتيوم)، وينتج الهيليوم كناتج ثانوي، وهو غاز خامل وغير مشع، مما يجعله أكثر أماناً بكثير من الناحية البيئية.
لماذا نحتاج إلى درجات حرارة أعلى من الشمس؟
على الرغم من أن قلب الشمس يصل إلى حوالي 15 مليون درجة مئوية، إلا أن مفاعلاتنا الأرضية تحتاج إلى درجات حرارة أعلى (تتجاوز 100 مليون درجة مئوية) لسبب رئيسي: التغلب على قوة التنافر الكهروستاتيكي بين نوى الهيدروجين المشحونة إيجابياً. في الشمس، يتم تحقيق ذلك عبر قوة الجاذبية الهائلة التي تضغط المادة إلى كثافة وكتلة لا يمكن محاكاتها على الأرض، بينما نستخدم نحن الحرارة القصوى والضغط المغناطيسي لتعويض نقص كتلة الجاذبية.
ما هو الدور الذي يلعبه مشروع "إيتر" (ITER) تحديداً؟
مشروع "إيتر" هو في المقام الأول تجربة علمية وهندسية ضخمة تهدف إلى إثبات أن تفاعل الاندماج النووي يمكن أن ينتج طاقة صافية قابلة للاستدامة على نطاق واسع (تحقيق كفاءة طاقة تفوق ما يتم استهلاكه لتشغيل المفاعل). إنه يمثل الجسر الضروري بين التجارب الصغيرة وإمكانية إنشاء محطات طاقة تجارية في المستقبل القريب.
هل وقود الاندماج النووي متوفر بسهولة؟
نعم، وقود الاندماج متوفر بوفرة كبيرة. الديوتيريوم يمكن استخراجه بسهولة من مياه البحار والمحيطات، بينما التريتيوم يمكن إنتاجه داخل المفاعل نفسه من الليثيوم، وهو عنصر متوفر في القشرة الأرضية. هذا الوفرة يجعل الاندماج مصدراً طاقياً لا ينضب تقريباً على المدى البشري.
ما هي الحواجز الرئيسية التي لا تزال تعيق التشغيل التجاري؟
أكبر الحواجز هي تحقيق "الاشتعال" والحفاظ عليه بثبات لفترات طويلة بكفاءة اقتصادية، بالإضافة إلى هندسة المواد. يجب تطوير مواد متقدمة تتحمل القصف المستمر من النيوترونات عالية الطاقة الناتجة عن التفاعل دون أن تتدهور بسرعة، وهو تحدٍ هندسي كبير يتطلب سنوات من البحث والتطوير.
🔎 في الختام، يمثل السعي لإتقان الاندماج النووي أحد أعظم التحديات العلمية والهندسية في عصرنا، ولكنه يحمل في طياته وعداً بتحرير البشرية من قيود ندرة الطاقة والتلوث. وبينما تتقدم المشاريع العملاقة مثل "إيتر" و"إيست" بخطى ثابتة، فإن الوصول إلى مفاعل اندماج تجاري مستدام يلوح في الأفق كأحد أهم الإنجازات التي ستشكل مستقبل الطاقة النظيفة للأجيال القادمة، مما يضمن استدامة حضارتنا على المدى الطويل.

قم بالتعليق على الموضوع